الصدق من أعظم الأخلاق التي يتَّصف بها إنسان؛ لذا كان محلَّ عناية القرآن؛ فقال تعالى موجِّهًا نداءه لكل مَنْ آمن به ربًّا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]؛ للدلالة على أن المجتمع المسلم يجب أن يتَّصف بهذه الصفة الرائعة صفة الصدق؛ لأنها مفتاح كل خير.
الصدق في حياة رسول الله
كان
رسول الله مثالاً قدوة في صفة الصدق؛ فقَبْل بعثته لُقِّب من قِبَل قريش بالصادق الأمين؛ فقد كانوا يستودعون رسول الله
حوائجهم، ويأتمنونه على أشيائهم وأسرارهم، وحينما بُعِث رسول الله
وأظهر له بنو جلدته وعشيرته العداوة والبغض والكره والحرب؛ ظلَّ رسول الله
على حُسْنِ خُلُقه، وظهر ذلك في ردِّ الأمانات إلى قوم جعلوا أنفسهم أعدى أعدائه
[1].
وعندما أمره الله
بإنذار عشيرته الأقربين صعِد على جبل الصفا، وقال: "أَرَأَيْتكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟" قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقًا...
[2].
كما شهد بصدقه أكثر الناس عداء له وهو النضر بن الحارث الذي قام خطيبًا في سادة قريش قائلاً لهم: "يا معشر قريشٍ، إنه والله قد نَزَلَ بكم أمرٌ ما أَتَيْتُم له بحيلة بَعْدُ، قد كان محمدٌ فيكم غلامًا حدثًا
[3]، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثًا، وأعظمكم أمانةً، حتى إذا رأيتم في صُدْغَيْهِ الشيب وجاءكم بما جاءكم به، قلتم: ساحر. لا والله ما هو بساحر؛ لقد رأينا السَّحَرَة ونَفْثَهُم وعقدهم، وقلتم: كاهن. لا والله ما هو بكاهن؛ قد رأينا الكهنة وتَخَالجُهم، وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر. لا والله ما هو بشاعر؛ قد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها؛ هزجه ورجزه، وقلتم: مجنون. لا والله ما هو بمجنون... فانظروا في شأنكم فإنه والله لقد نزل بكم أمرٌ عظيمٌ"
[4].
وأكبر من هذا كله شهادة رب العالمين على صدقه
فقال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33]، والذي جاء بالصدق هو نبينا محمد
، والذي شهد لما جاء به هو الله I في قرآنه المنزَّل من فوق سبع سماوات، ويقول
ابن عاشور معلقًا على هذه الآية: "الذي جاء بالصدق هو محمد رسول الله
، والصدق هو القرآن"
[5].
حث رسول الله على الصدق
كان رسول الله
دائمًا ما يحثُّ المسلمين على الصدق في أقوالهم وأفعالهم فيقول
: "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا"
[6].
بل ويُوَجِّه رسول الله
خطابه للمسلين قائلاً لهم: "اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ؛ اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ"
[7].
ومن عظمة رسول الله
التربوية ما تركه في نفوس أحفاده والمسلمين من حُبِّ الصدق، وأكبر دليل على ذلك ما رواه
أبو الحوارء السعدي حيث قال: قلتُ
للحسن بن علي : ما حفظت من رسول الله
؟ قال: حفظت من رسول الله
"دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ"
[8].
صدق رسول الله في الفكاهة
لقد كان رسول الله
مُتَّصِفًا بهذه الصفة في كل أفعاله وأقواله؛ حتى في وقت المرح والفكاهة التي يظنُّ البعض أن الكذب فيها مباح، فعن
أنس بن مالك أن رجلاً أتى النبي
فاستحمله، فقال رسول الله
: "إِنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ". قال: يا رسول الله، ما أصنع بولد ناقة؟ فقال رسول الله
: "وَهَلْ تَلِدُ الإِبِلَ إِلاَّ النُّوقُ؟!"
[9]. فكانت هذه الفكاهة من النبي
مع رجل من عامَّة المسلمين من باب تقارب النفوس، وزيادة المحبة، ولكنه
لم يستعمل فيها إلاَّ الصدق.
صدق رسول الله في الحرب
وكذلك كان حال رسول الله
في وقت الحرب، الذي أجاز فيها النبي
الكذب على الأعداء اتِّقاء لشرِّهم ودفعًا لضررهم
[10]، ولكن رسول الله
لم يقل أيضًا إلاَّ صدقًا، ولننظر إلى موقفه قُبيل
غزوة بدر، التي خرجت فيها قريش لتستأصل المسلمين، فخرج رسول الله
ومعه
أبو بكر الصديق ؛ ليتعرَّفَا أخبار قريش فوقفا على شيخٍ من
العرب، فسأله رسول الله
عن قريشٍ، وعن محمدٍ وأصحابه، وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟
فقال رسول الله
: "إذَا أَخْبَرْتنَا أَخْبَرْنَاكَ". قال: أذاك بذاك؟ قال: "نَعَمْ". قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدًا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني، فهم اليوم بمكان كذا وكذا -للمكان الذي به رسول الله
- وبلغني أن قريشًا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا. للمكان الذي فيه قريشٌ. فلمَّا فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله
: "نَحْنُ مِنْ مَاءٍ". ثم انصرف عنه، قال يقول الشيخ: ما من ماءٍ؛ أمن ماء العراق؟
[11].
وما أجمل أن نختم مقالنا هذا بقصة رسول الله
مع وفد هوازن الذي عَلَّمَه فيه قيمة الصدق في أول يوم لهم في الإسلام، فقال له
: "أَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ..."
[12].
شهادة كارليل على صدق رسول الله
هكذا كانت حياته
حياة يملؤها الصدق في كل شيء، وهذا ما دعا كارليل إلى أن يقول: "... هل رأيتم قط أن رجلاً كاذبًا يستطيع أن يوجد دِينًا عجبًا؟ إنه لا يقدر أن يبني بيتًا من الطوب! فهو إذا لم يكن عليمًا بخصائص الجير والجصِّ والتراب وما شاكل ذلك، فما ذلك الذي يبنيه ببيت؛ وإنما هو تلٌّ من الأنقاض وكثيب من أخلاط الموادِّ، وليس جديرًا أن يبقى على دعائمه اثني عشر قرنًا يسكنه مائتا مليون من الأنفس
[13]، ولكنه جدير أن تنهار أركانه فينهدم فكأنه لم يكن، وإني لأعلم أن على المرء أن يسير في جميع أموره طبق قوانين الطبيعة وإلا أبت أن تجيب طلبته. كذبٌ ما يذيعه أولئك الكفار، وإن زخرفوه حتى تخيَّلُوه حقًّا... ومحنةٌ أن ينخدع الناسُ شعوبًا وأممًا بهذه الأضاليل..."
[14].
د. راغب السرجاني
[1] البيهقي: السنن الكبرى (12477)، وابن كثير: البداية والنهاية 3/218، 219، والطبري: تاريخ الأمم والملوك 1/569.
[2] البخاري عن عبد الله بن عباس: كتاب التفسير (4492)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى: "وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ" (208).
[3] غلامًا حدثًا: أي فَتِيُّ السِّنِّ، ورجلٌ حَدَثٌ أَي شابٌّ. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة حدث 2/131.
[4] ابن هشام: السيرة النبوية 1/299، 300، والسهيلي: الروض الأنف 3/68، وابن سيد الناس: عيون الأثر 2/427.
[5] ابن عاشور: التحرير والتنوير 24/86.
[6] مسلم عن عبد الله بن مسعود: كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله (2607)، وأبو داود (4989)، والترمذي (1971)، وابن ماجه (3849).
[7] أحمد بن حنبل عن عبادة بن الصامت: باقي مسند الأنصار، حديث عبادة بن الصامت
(22809)، وقال شعيب الأرناءوط: حسن لغيره وهذا إسناد رجاله ثقات. وابن حبان (271)، والحاكم (8066)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الألباني: حسن. انظر: صحيح الجامع (1018).
[8] الترمذي: كتاب صفة القيامة (2518)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأحمد (1723)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح. وأبو يعلى (6762)، والحاكم (7046)، وقال الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع (3378).
[9] أبو داود: كتاب الأدب، باب ما جاء في المزاح (4998)، وأحمد (13844)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين... وأبو يعلى (3776)، وقال حسين سليم أسد: رجاله رجال الصحيح.
[10] ما يباح من الكذب، انظر: النووي: رياض الصالحين ص565، 566.
[11] ابن كثير: السيرة النبوية 2/396، وابن هشام: السيرة النبوية 1/615، والسهيلي: الروض الأنف 5/73، وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/329.
[12] البخاري عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة: كتاب الوكالة، باب إذا وهب شيئا لوكيل أو شفيع قوم جاز (2184)، وأبو داود (2693)، وأحمد (18934).
[13] هذا التعداد الذي ذكره كارليل كان وقت إصداره لكتابه (الأبطال)، أما الآن عام 2008م فقد تجاوز عدد المسلمين في العالم 1.3 مليار نسمة. انظر: جريدة الشرق الأوسط، على الرابط:
http://www.asharqalawsat.com.
[14] كارليل: الأبطال ص43.