يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. ففي الاقتداء به وبهديه صلى الله عليه وسلم الهداية والرشاد في القول والعمل؛ {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].
فالحريصون على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم هم الذين يقصدون بأعمالهم صغيرها وكبيرها وجه الله عز وجل، يثورون ابتغاء وجه الله ومرضاته من أجل التغيير والإصلاح، تمتلئ صدورهم بهذا النداء الرباني {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84]، يهتفون بألسنتهم: (الله غايتن، والرسول قدوتنا وزعيمن، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا).
لقد بُعث صلى الله عليه وسلم في مجتمع قد غطى الجهل والظلم والاستبداد والطغيان كل جوانبه، فثار صلى الله عليه وسلم على كل صور الجهل والظلم والطغيان والفساد، وأعلنها ثورة بيضاء منذ أول لحظة، ينشد الخير لقومه وأمته، يصيح بأعلى صوته من فوق جبل الصفا "أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تملكون بها العرب والعجم".
يملك من مقومات الثائر الحق الكثير، فيستثيرهم بهذه المقومات ويأسرهم به، فلما نادى عليهم أجابوا نداءه، تقول السير: (فلما سمعوا قالوا: مَن هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد. فأسرع الناس إليه، حتى إن الرجل إذا لم يستطع أن يخرج إليه أرسل رسولاً لينظر ما هو).
فلما اجتمعوا قال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي بسَفْحِ هذا الجبل تريد أن تغيرَ عليكم، أكنتم مُصَدِّقِيَّ؟".
قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبًا، ما جربنا عليك إلا صدقًا.
قال: "إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العَدُوّ فانطلق يَرْبَأ أهله -أي يتطلع وينظر لهم من مكان مرتفع؛ لئلاّ يدهمهم العدو- خشي أن يسبقوه، فجعل ينادي: يا صباحاه".
ثم دعاهم إلى الحق، وأنذرهم من عذاب الله، فخصَّ وعمَّ.
ولمَّا خاطب أهله من بني هاشم وبني المطلب قال لهم: "إن الرائد لا يكذب أهله. واللهِ لو كذبت الناس جميعًا ما كاذبتكم، ولو غررت الناس جميعًا ما غررتكم. والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصَّة، وإلى الناس كافَّة. والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحسانً، وبالسوء سوءً، وإنها الجنة أبدًا أو النار أبدًا".
والشاهد والقدوة هنا -أخي الثائر- قولهم وشهادتهم له صلى الله عليه وسلم (قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبًا، ما جربنا عليك إلا صدقًا)؛ فموطن القدوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المشهد أن تمتلك -أخي الثائر- عند الناس رصيدًا من الأخلاق، من الصدق حتى يستمع الناس لك ولدعوتك.
خرجت الدعوة الخاتمة للعالمين من بين ثلاثمائة صنم يحوطون الكعبة، وآلاف المخمورين الذين يجوبون طرقات مكة، ويطرقون دور البغاء بها صباحًا ومساءً، والدعوة الوليدة تصطدم في جوهرها بنظم مكة العتيقة، وحياة أهلها، فهل يُكتب على المؤمنين بها أن يصطدموا بأهل مكة، والدعوة بعد في أولى خطواتها؟
لقد نهاهم القرآن أن يسبوا الآلهة الصماء {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، وامتنعوا هم أن يردوا إلى المشركين إساءاتهم ومكائدهم اللئيمة. إن العربي الذي كان يقيم حربًا لسنوات طويلة ولا يقعدها من أجل أن "فرسًا" سبقت أخرى دون حق، صار اليوم بعد أن دخل دين الله يعرف كيف يضبط نفسه، ويشكم جماحها؛ فقد تعلم من نبيه صلى الله عليه وسلم الإخلاص، فلماذا الثأر والانتقام؟! حاشاه أن يفعل! أمَّا إن كان لله ورسوله ودينه العمل، فالخير -إذن- في الصبر والاحتمال؛ فموطن القدوة هنا من القرآن ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
فإياك -أخي الثائر- أن تكون سبَّابا لعَّانًا، حتى لو كان مَن تسبه وتلعنه يستحق السب واللعن، فليس أولى بالسب واللعن من الأصنام وآلهة المشركين، فاضبط نفسك، واشكم جماحها، وإياك أن يجري على لسانك الفحش من القول.
الثائر يثور ليصلح الواقع الذي يعيش فيه، وواقعنا يمتلئ بالكثير من السلبيات التي نريد إصلاحه، نريد تغيير منظومة الفساد التي وصلت إلى الرُّكَبِ كما قيل. نريد تشغيل كتيبة من العاطلين يصل عددها إلى الملايين، نريد إصلاح المنظومة الأخلاقية للمجتمع التي انهارت، ونستبدلها بالمنظومة الأخلاقية الحضارية، نريد... ونريد... ونريد... إلخ.
لن يستطيع الثائر أن يصلح شيئًا وهو فاقد له؛ ففاقد الشيء لا يعطيه، فالثائر الذي يريد أن يحل مشكلة البطالة بالمجتمع لا بُدَّ أن يكون ناجحًا في عمله متقنًا له، فلا يعقل أن يستطيع عاطل أن يحلَّ هذه المشكلة التي فشل هو في حلها على مستواه الشخصي!!! فكيف يحلها لغيره؟!
الثائر يتصدر للعمل العام وحينئذٍ من حق المجتمع أن يتعرف عليه ويسأل عنه، عن علاقته بربه، وقد اكتوينا بأشخاص تصدروا المشهد لا يقدِّرون الله عز وجل حق قدره، ولا يخشونه، فسرقوا ونهبوا واختلسوا وفسدوا وأفسدوا وظلموا وعاثوا في الأرض فسادً، والمجتمع اليوم ليس على استعداد للتجربة من جديد، ولن يطمئنَّ لتوسيد الأمر بعد اليوم إلا لمن يخاف الله أكثر من خوفه من الناس.
من حق المجتمع أن يعرف كيف هي علاقتك بأهلك، بوالديك؛ فالثائر البار بوالديه هو المستحق لثقة الناس.
والثائر الرحيم بأهله وزوجته هو القادر على أن يعامل الناس بهذه الرحمة.
والثائر الذي يؤدي حق جيرانه، ويمتلك سمعة طيبة من الأخلاق والسلوك والبر والعطاء لأهله وجيرانه، هو القادر على العطاء لوطنه وأمته.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم القدوة في ذلك كله؛ فعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"
[1].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن". قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه"
[2].
أخي الثائر، لقد ثار النبي صلى الله عليه وسلم على القيم والأخلاق والسلوكيات السلبية الجاهلية في المجتمع، وأبقى على الإيجابي منه، وانظر وتأمل في قوله صلى الله عليه وسلم: "فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقِهُوا"
[3].
وتأمل في حديثه صلى الله عليه وسلم عن حلف الفضول، حيث اجتمعت قبائل من قريش في دار ابن جدعان، فصنع لهم طعامًا، وتحالفوا، وتعاقدوا، وتعاهدوا بالله ليكونُنَّ يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم؛ حتى يُؤدَّى إليه حقه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد شهدتُ في دار عبد الله بن جدعان حلفًا، لو دعيت به في الإسلام لأجبتْ. تحالفوا أن ترد الفضول على أهلها، وألا يعز ظالم مظلومًا".
فما ثار النبي صلى الله عليه وسلم ليهدم كل شيء، ولكن في المجتمع قيم وأخلاق وسلوكيات إيجابيَّة، فيجب الحفاظ عليها وتنميتها.
أخي الثائر، فلتعلم قول الحق سبحانه وتعالى وقول حبيبك المصطفى صلى الله عليه وسلم في حرمة الدماء والأعراض: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة: 32]. لذلك فإن قتل نفس واحدة -في غير قصاص لقتل، وفي غير دفع فساد في الأرض- يعدل قتل الناس جميعًا؛ لأن كل نفس ككل نفس، وحق الحياة واحد ثابت لكل نفس؛ فقتل واحدة من هذه النفوس هو اعتداء على حق الحياة ذاته، الحق الذي تشترك فيه كل النفوس.
كذلك دفع القتل عن نفس، واستحياؤها بهذا الدفع -سواء كان بالدفاع عنها في حالة حياتها أو بالقصاص لها في حالة الاعتداء عليها لمنع وقوع القتل على نفس أخرى- هو استحياء للنفوس جميعًا؛ لأنه صيانة لحق الحياة الذي تشترك فيه النفوس جميعًا؛ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أول ما يقُضى بين الناس يوم القيامة في الدماء"
[4].
فليعلم ذلك الظالمون القتلة الذين اعتدوا -ولا يزالون- بالقتل على الآمنين من شعب مصر.
ولتعلم -أخي الثائر- أن بمشاركتك في الدعوة لاعتصام أو مظاهرة، فلا بد من بذل أقصى الجهد بالتنسيق مع كافة القوى أن يكون اعتصامًا وتظاهرًا سلميًّا، لا يُعتدَى فيه على مؤسسات الدولة التي هي ليست ملكًا للظالمين، ولكنها ملك للشعب، وأن لا يكون فيها اعتداء على أحد من قُوَى أخرى أو شرطة أو جيش؛ حتى نظل نفخر بسلميَّة ثورتن، وليس فيها قطعٌ لطريق ولا تعطيل لمصالح العباد.
ولتعلم أن هدف الثورة هو تحقيق مصلحة العباد من أمن غذائي وأمن اجتماعي وعدالة اجتماعية {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ
* الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3، 4]. فإياك أن تكون مشاركًا في تفزيع الناس، وتخويفهم، وتعطيل مصالحهم.
أخي الثائر، لتكن قدوتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تكون مجمِّعًا لا مفرقً، فقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بتجميع الأمة على كلمة واحدة بالحب، فآخى ووحَّد بين المهاجرين والأنصار، كما وحَّد بين قلوب الأنصار من أوس وخزرج بعد عقود من الشقاق والحروب، فقد كان صلى الله عليه وسلم حريصًا على تحقيق السلم الاجتماعي؛ حتى يأمن الناس على أنفسهم، وأعراضهم، وأموالهم.
وأخيرًا، فلتحذر -أخي الثائر- من وسائل الإعلام المغرض التي يقف وراءها أعداء الأمة والوطن، والتي لا همَّ لهم إلا نشر الفتن وإحداث الوقيعة بين أبناء الوطن، فيقتل الناس بعضهم بعضً، وما مصابنا في
بورسعيد عنا ببعيد! وليعلم هؤلاء قول قدوتنا المصطفى صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ"
[5].
ولنرفع -أخي الثائر- أيدينا بالدعاء:
اللهم ألحق بمن يمكر بمصر سوء العذاب، وقِنَا ومصر؛ شعبًا وأرضًا سيئات ما يمكرون. اللهم احفظ مصر وأهل مصر من الفتن، واجعلها آمنة مطمئنة وسائر بلاد المسلمين. اللهم إنا استودعناك مصر وأهلها؛ أمنها وأمانها، ليلها ونهاره، أرضها وسماءه، نيلها ومنشآته، فاحفظها يا رب العالمين، يا من لا تضيع عنده الودائع. اللهم ولِّ علينا خيارنا ولا تولِّ علينا شرارنا. آمين، آمين يا رب العالمين.