يعود تاريخ اليهود في تونس الى العصور القديمة. فقد تبين أن وجودهم على أرض تونس الحالية يرجع الى القرن الثاني قبل الميلاد، على الرغم من أن بعض الفرضيات تقول بأن وصولهم الى المنطقة يرجع الى فترة أقدم من ذلك.
بعد الغزو الروماني عام 146 قبل الميلاد، زاد عدد السكان اليهود في مقاطعة افريقيا زيادة ملحوظة. كان اليهود يمارسون التجارة، الزراعة وتربية المواشي. كانوا ينقسمون الى قبائل أو عشائر، يحكمها مرجع يدينون له بالولاء، كما كانوا يدفعون جزية للرومان قوامها اثنين شيكل. وعندما أعلنت المسيحية دين الدولة، تعرضوا لمختلف التدابير التمييزية (الاستغناء عن خدماتهم في جميع الوظائف العمومية، وإنذارهم بالعقاب الشديد إن هم قاموا ببناء معابد جديدة، محظورة عليهم.
وصول الفاندال في أوائل القرن الخامس إلغاء لهذه التدابير، وفتحاً لمرحلة من السلام لليهود. في الواقع، كان أسياد افريقيا الرومانية الجدد يؤمنون بالآرية، مذهب أقرب إلى التوحيدية اليهودية من الكاثوليكية التي عرف بها آباء الكنيسة، وبالتالي فهي أكثر تسامحاً. ولا شك أن هذه الفترة سمحت لليهود بالإزدهار اقتصادياً. في مقابل ذلك، كانوا يؤيدون ملوك الفاندال ضد جيوش الامبراطور البيزنطي جوستينيان، الزاحفة لاحتلال شمال افريقيا.
بعد انتصار هذه الجيوش عام 535 بدأت مرحلة من السيطرة البيزنطية، عانى فيها اليهود من القمع الشديد، إذ أنهم استبعدوا من كافة الوظائف العامة، وحولت معابدهم الى كنائس كما حظرت عليهم العبادات والاجتماعات.
ومع الفتح الإسلامي ووصول الاسلام الى تونس في القرن الثامن، وجد "أهل الكتاب" من اليهود والمسيحيين أنفسهم يخضعون لاختيار : التحول الى الدين الاسلامي، خياراً اعتمده بعض البربر الذين سبق وهوّدوا، أو الخضوع الى وضع الذمي، أو التوصل الى اتفاق بشأن الحماية. شأنهم شأن غيرهم من اليهود في البلدان الإسلامية. اختار يهود أفريقية (تونس الحالية) القبول بوضع الذمي. وكرد على الوضع الجديد، اختار اليهود الانخراط في المجتمع الجديد، اقتصادياً وثقافياً ولغوياً، مع حفاظهم على خصائصهم الثقافية والدينية. مع أن تعريب السكان بدا بطيئاً، إلا أن هذه الظاهرة سارت على نحو أسرع في المناطق الحضرية، نتيجة لقدوم يهود الشرق في أعقاب العرب. وفي كل مكان، استطاعت الطبقات الغنية، منذ نهاية القرن الثامن، الانخراط في المجتمع الجديد على المستوى الثقافي، كما أنها استطاعت التحدث والقراءة والكتابة باللغة العربية.
وفي ظل حكم السلالات "الأغالبة" والأخرى من الفاطميين، استفاد اليهود من شروط معيشية مؤاتية، فظهر نفوذهم السياسي في ادارة شؤون البلاد. لكن وصول المعز ابن باديس الى السلطة (1015 الى 1062) صاحبته فترة من الاضطهاد والقمع. ذاك الاضطهاد أضر بازدهار جالية القيروان وأدى الى هجرة بعض أعضائها إلى تونس، التي شهدت ازياداً مضطرداً في عدد سكانها، الى جانب اكتسابها أهمية تجارية.
إن انضمام "الموحدين" البربر الى السلطة في 1146 نزل على يهود تونس نزول الصاعقة. فقد اضطر بعض اليهود الى التحول عن دينهم واعتناق الإسلام، ولكن ظاهرياً فقط. فقد كانوا يمارسون طقوسهم في السر.
وفي ظل الأسرة الحفصية الحاكمة، التي أنشئت عام 1236، تحسنت حياة اليهود بنسبة كبيرة. واستعاد المسيحيون واليهود مرة أخرى وضعهم التقليدي، دون أن يشكل ذلك عراقيلاً لهم في عملهم أو عباداتهم. شأنها شأن القرون الأولى للإسلام، نعمت الجاليات اليهودية بقدر نسبي من الحكم الذاتي مكنهم من إدارة وتلبية احتياجاتهم على الصعيد الثقافي والاجتماعي.
وكان حي هارا حتى عام 1857 يعتبر غيتو في تونس (وهو مغلق ليلاً). وبعد هزيمة لويس التاسع عشر، ملك فرنسا، في عام 1270، قائد الحملة الصليبية الثامنة في تونس، أعلنت مدينة القيروان مدينة مقدسة. وبذلك اضطر اليهود الى الهجرة أو التحوّل عن دينهم واعتناق المسيحية. منذ ذلك الحين، وحتى احتلال البلاد من قبل فرنسا، حظّر على اليهود والمسيحيين، على حد سواء، قضاء الليل في هذه المدينة، التي لم يكن يمكنهم الوصول إليها نهاراً إلا بتصريح خاص من حاكم المدينة.
وحين سيطر الإسبان على تونس في عام 1535، تم اعتقال الكثير من اليهود الذين بيعوا كعبيد في كثير من البلدان المسيحية. وعندما تغلب العثمانيون على الاسبان في 1574، أصبحت تونس منطقة تابعة للامبراطورية العثمانية. وتحت حكم الدايات والبايات المتعاقبين، لعب اليهود دوراً بارزاً في التبادل التجاري مع بلدان الخارج.
في أوائل القرن الثامن عشر، تحسن مركز اليهود السياسي في تونس تحسناً كبيراً بفضل تنامي تأثير الكوادر السياسية من القوى الاوروبية. وخلال الفترة نفسها، تركت الكثير من الأسر الإسبانية أو البرتغالية، التي كانت تعيش في ليفورنو توسكانا، من أجل الاستقرار في تونس، قاسمين بذلك المجتمع بين يهود تونسيين وغرناطيين. وبشكل متزايد، ساهم العديد منهم في القرن السابع عشر، بجزء كبير من أنشطة السكان اليهود، كما شاركوا في إنشاء أول الصناعات. وبما أنهم كانوا يتحدثون اللغة الايطالية، لم يكن بينهم وبين اليهود سوى القليل من التواصل، وذلك لأن يهود تونس كانوا يتحدثون اللغة اليهودية ـ العربية، ويلبسون الملابس الشرقية. إن انعدام الثقة المتبادل كما تعارض الأخلاقيات كانا مصدراً للفصل بين الطائفتين.
في القرن التاسع عشر، انفتحت تونس تدريجياً على التأثيرات الأوروبية. وفي هذا السياق، أدخل أحمد باي الأول الاصلاحات على السياسة التونسية. وبموجب اتفاق وقع في 1846، إحتفظ اليهود التوسكانيون الذين استقروا مؤخراً في تونس، بالحق في الحفاظ على تابعيتهم التوسكانية لمدة غير محدودة. وهذا ما دفع العديد من يهود ليفورنو للاستيطان في تونس، مؤلفة بذلك أقليات أجنبية تحت حماية القنصل التوسكاني. وفي عام 1857، حكم بالإعدام على حوذي يهودي بتهمة القذف وتم إعدامه في 24 حزيران. شدة العقوبة أثارت المشاعر القوية، وأعطت الفرصة لكل من قنصل فرنسا وانكلترا، للتدخل في السياسة التونسية وبفرض على محمد بك الدخول في مسار إصلاحات ليبرالية. كما اضطرته قوات نابليون الثالث التي كانت تحتل حلق الوادي الى إعلان الاتفاق الأساسي في 10 أيلول، الذي بموجبه يتمتع جميع التونسيين، بغض النظر عن عقائدهم، بحقوق متساوية.
أما خلفه، صادق باي، فقد استبدله بدستور حقيقي في 26 أبريل 1861. هذه النصوص المبتكرة وضعت حداً لجميع التدابير التمييزية ضد اليهود ومنحتهم نفس الحقوق والواجبات التي للمسلمين. ولكن، بعد تمرد بسبب استمرار ارتفاع العبء الضريبي عام 1864، تم تعطيل الاصلاحات. ومنذ ذلك الحين، أصبح البلد مسرحاً للصراعات على النفوذ من قبل القوى الاوروبية.
مع فرض الحماية الفرنسية في تونس في 1881، فتح عهد جديد لليهودية التونسية التي رحبت بالمبادئ الديمقراطية التي أدخلتها فرنسا. علاوة على ذلك، تحسنت حالتهم الاقتصادية وازدهرت نتيجة للاقتصاد الاستعماري. وبالتالي، تولّد عن تعليم الأجيال الجديدة تمازج بين السكان اليهود، حيث الكثير من العائلات اليهودية الثرية هجرت الهارا وسعت الى الاستيطان في أحياء أوروبية.
مع أن القانون الفرنسي الصادر في 20 كانون الأول 1923 جعل من شروط الحصول على الجنسية الفرنسية سهلاً، إلا أن عدداً قليلاً منهم تقدم بطلب الحصول على الجنسية. ومع ذلك، فإن 7311 فقط من أصل عدد سكان بلغ نحو 100 ألف، تقدموا بالطلبات ما بين 1910 و 1956.
بعد الحرب العالمية الأولى، حصل اليهود، بموجب المرسوم بيليكال، الصادر في 20 آب 1921، على مجلس إدارة، عن طريق اقتراع عام، بتمثيل نسبي من ليفورنوا وتونسيين. وبالإضافة إلى ذلك، حصل السكان على حق التمثيل في جميع المجالس الاستشارية للبلد : غرف تجارية، مستشارية الرؤساء وعلى مقاعد في المجالس الكبرى.
في عام1931، شيد أكبر كنيس في تونس. وبصرف النظر عن أحداث الشغب التي وقعت في 1932 في صفاقس في عام 1934، وأريانة، نعمت الجالية اليهودية بفترة من السلم والنمو الاستثنائي. وعلى أعتاب الحرب العالمية الثانية، بلغ عدد اليهود التونسيون 56240، يضاف إليهم 7000 يهودي فرنسي و 3000 يهودي ايطالي.
بحلول الهدنة في 25 يونيو 1940، بقيت تونس تحت سيطرة الحكومة الفرنسية، وممثلها الأدميرال استيفا، القائم العام بأعمال فرنسا في تونس. ثم أعيد العمل بجميع القوانين التمييزية ضد اليهود التي كانت الدولة الفرنسية قد أصدرتها بحسب مرسوم بيليكال، والمعمول بها في مجلس الوصاية على العرش. ومع ذلك، فإن السلطة التشريعية احتفظت لنفسها بالحق في تحديد، بموجب مرسوم بيليكال، اليهود المتهربين من الخضوع للقانون تحت ذريعة خدمات قدموها لتونس أو لفرنسا.
من نوفمبر 1942 الى مايو 1943، احتلت قوات المحور كامل الأراضي في تونس الشرقية. كما فرضت سلطات الاحتلال غرامات كبيرة على الجماعات اليهودية. وصودر العديد من الشقق السكنية، معرضين بذلك العائلات اليهودية للبقاء في الشوارع. كما صودرت المجوهرات، والأثاث، وأدوات العمل ووضعت تحت تصرف المحتل الألماني. إلا أنهم، وخلافاً لليهود في معظم البلدان التي عرفت الاحتلال الألماني، أعفي يهود تونس من تقلّد النجمة الصفراء.
في 6 كانون الأول 1942، استبدلت القيادة العليا الألمانية، بموافقة الباي، مجلس ادارة الجالية اليهودية بلجنة من تسعة أعضاء، وظيفتها تقديم قائمة من 2000 يهودي من أجل العمل لحساب قوات الاحتلال. وبما أن السلطات قد تاخرت في تقديم القائمة المطلوبة، قام الألمان بعمليات اعتقال وصفت بالوحشية ، كما عمدوا الى زيادة عدد عمال السخرة من 3000 الى4000. .
تحت وطأة الاحتلال الألماني، قتل 350 يهودياً تحديداً في تونس، وأكثر من ثلاثين عامل بالسخرة نتيجة لقصف قوات التحالف، كما مات 600 الى 700 شخص بسبب سوء التغذية والأوبئة.
بدءا من منتصف عام 1950، بدأت الهجرة اليهودية الى اسرائيل وفرنسا بشكل واسع النطاق. نحو 25000 يهودياً غادروا تونس بين عامي1948 و1955. أما اليوم، فقد اختفى آخر آثر لذلك الماضي. وعلى الرغم من الجهود الحقيقية المبذولة من جانب الحكومة التونسية والجمعيات التي نشأت، تداعت المقابر، وأغلقت المعابد. ولم يعد هناك وجود لليهودية في الذاكرة الجماعية للأجيال.