شخصيات صنعت التاريخ ...... إسحاق عليه السلام .....
ولد إسحاق عليه السلام ولأبيه مائة سنة بعد أخيه إسماعيل بأربع عشرة سنة. وكان عمر أمه سارة حين بشرت به تسعين سنة. قال الله تعالى (وبشرناه بإسحاق نبياً من الصاحين . وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين) الصافات 112 - 113، وقد ذكره الله تعالى بالثناء عليه في غير آية من كتابه العزيز. في حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم ، وذكر أهل الكتاب: أن إسحاق لما تزوج رفقاً بنت بتواييل في حياة أبيه كان عمره أربعين سنة وأنها كانت عاقراً فدعا الله لها فحملت فولدت غلامين توأمينك أولهما سموه عيصو وهو الذي تسميه العرب العيص وهو والد الروم. والثاني: خرج وهو آخذ بعقب أخيه فسموه يعقوب وهو إسرائيل الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل. قالوا: وكان إسحاق يحب العيصو أكثر من يعقوب لأنه بكره وكانت أمهما رفقاً تحب يعقوب أكثر لأنه الأصغر.
قالوا: فلما كبر إسحاق وضعف بصره اشتهى على ابنه العيص طعاماً وأمره أن يذهب فيصطاد له صيداً فيطبخه له ليبارك عليه ويدعو له وكان العيص صاحب صيد فذهب يبتغي ذلك فأمرت رفقاً ابنها يعقوب أن يذبح كبشين من خيار غنمه ويصنع منهما طعاماً كما اشتاه أبوه ويأتي به قبل أخيه ليدعو له فقامت فألبسته ثياب أخيه وجعلت على ذراعيه وعنقه من جلد الكبشين لأن العيص كان أشعر الجسد ويعقوب ليس عذلك. فلما جاء به وقربه إليه قال: من أنت؟ قال: ولدك فضمه إليه وجسه وجعل يقول: أما الصوت فصوت يعقوب! وأما الجسم والثياب فالعيص! فلما أكل وفرغ دعا له أن يكون أكبر إخوته قدراً، وكلمته عليهم وعلى الشعوب بعده وأن يكثر رزقه وولده.
فلما خرج من عنده جاء أخوه العيص بما أمره به والده فقربه إليه. فقال له يا بني؟ قال: هذا الطعام الذي اشتهيته. فقال: أما جئتني به قبل الساعة وأكلت منه ودعوت لك؟ فقال: لا والله. وعرف أن أخاه قد سبقه إلأى ذلك فوجد في نفسه عليه وجداً كثيراً. وذكروا: أنه تواعده بالقتل إذا مات أبوهما وسأل أباه فدعا له بدعوة أ وأن يجعل لذريته غليظ الأرض وأن يكثر أرزاقهم وثمارهم فلما سمعت أمهما ما يتواعد به العيص أخاه يعقوب أمرت ابنها يعقوب أن يذهب إلى أخيها لابان الذي بأرض حران وأن يكون عنده إلى حين يسكن أخيه عليه وأن يتزوج من بناته. وقال لزوجها اسحاق أن يأمره ويوصيه ويدعو له. ففعل فخرج يعقوب عليه السلام من عندهم من آخر ذلك اليوم فأدركه المساء في موضع فنام فيه أخذ حجراً فوضعه تحت رأسه ونام، فرأى في نومه ذلك معراجاً منصوباً من السماء إلى الأرض وإذا الملائكة يصعدون فيه وينزلون والرب تبارك وتعالى يخاطبه ويقول له: إني سأبارك عليك وأكثر ذريتك واجعل لك هذه الأرض ولقلبك من بعدك. فلما هب من نومه فرح بما رأى ونذر لله لئن رجع إلى أهله سالماً ليبنين في هذا الموضوع معبداً لله عزوجل وأن جميع ما يرزقه من شيء يكون لله عشره. ثم عمد إلى ذلك الحجر فجعل عليه دهناً ليعرفه وسمى ذلك الموضع: بيت أيل (أي بيت الله) وهو موضع بيت المقدس اليوم الذي بناه يعقوب بعد ذلك. قالوا فلما قدم يعقوب على خاله أرض حران إذا له ابنتان: اسم الكبرى ليا واسم الصغرى راحيل وكانت أحسنهما وأجملهما فطلب زواجها فأجابه إلى طلبها بشرط أن يرعى على غنمه سبع سنين فلما مضت المدة على خاله لابان صنع طعاماً وجمع الناس عليه وزف إليه ليلا ابنته الكبرى ليا وكانت ضعيفة العينين قبيحة المنظر فلما أصبح يعقوب إذا هي ليا فقال لخاله: لم غدرت بي وأنت إنما خطبت إليك راحيل؟! فقال: إنه ليس من سنتنا أن نزوج الصغرى قبل الكبرى فإن أحببت أختها فاعمل سبع سنين أ وأزوجكها.
عمل يعقوب عليه السلام سبع سنين وأدخلها عليه خاله مع أختها وكان ذلك سائغاً في ملتهم ثم نسخ في ملتهم ثم نسخ في شريعة التوراة. وهذا وحده دليل كاف على وقوع النسخ لأن فعل يعقوب عليه السلام دليل على جواز هذا وإباحته لأنه معصوم. ووهب لابان لكل واحدة من ابنتيه جارية فوهب لليا جارية اسمها: زلفى ووهب لراحيل: جارية اسمها بلهى، وجبر الله تعالى ضعف ليا بأن وهب لها أولاداً فكان أول من ولدت ليعقوب: روبيل ثم شمعون ثم لاوى ثم يهوذا فغارت عند ذلك راحيل (وكانت لا تحمل) فوهبت ليعقوب جاريتها بلهى فوطئها فحملت وولدت له غلاماً سمته: دان وحملت وولدت له غلاماً سمته: دان وحملت وولدت غلاماً آخر سمته نيفتالي. فعمدت عند ذلك ليا فوهبت جاريتها زلفى من يعقوب عليه السلام فولدت له: حاد وأشير غلامين ذكرين ثم حملت ليا أيضاً فولدت غلاماً خامساً منها وسمته: ايساخر ثم حملت وولدت غلاماً سادساً سمته: زابلون ثم حملت وولدت بنتاً سمتها: دنا فصار سبعة من يعقوب. ثم دعت الله تعالى راحيل وسألته أن يهب لها غلاماً من يعقوب فولدت غلاماً عظيماً شريفاً حسناً جميلاً سمته: يوسف كل هذا وهم مقيمون بأرض حران وهو يرعى على خاله غنمه بعد دخوله على البنتين ست سنين أ فصار مدة مقامه عشرين سنة فطلب يعقوب من خاله لابان أن يسرحه ليمر إلى أهله فقال له خاله: إني قد بورك لي بسببك فسلني من مالي ما شئت؟ فقال: تعطيني كل حمل يولد من غنمك هذه السنة أبقع (ما خالط لونه لون آخر) وكل حمل ملمع أبيض بسواد وكل أملح ببياض وكل أجلح (لا قرن له) أبيض من الماعز. فقال: نعم. فعمد بنوه فأبرزوا من غنم أبيهم ما كان على هذه الصفات وساروا بها مسيرة ثلاثة أيام عن غنم أبيهم. قالوا: فعمد يعقوب عليه السلام إلى قضبان رطبة بيض من لوز ودلب فكان يقشرها بلقاً وينصبها في مساقي الغنم من المياه لتنظر الغنم إليها فتفزع وتتحرك أولادها في بطونها فتصير ألوان حملانها كذلك. وهذا يكون من باب خوارق العادات وينتظم في سلك المعجزات. فصار ليعقوب عليه السلام أغنام كثيرة ودواب وعبيد وتغير له وجه خاله وبنيه وكأنهم انحصروا منه.
وأوحى الله إلى يعقوب أن يرجع إلى بلاد أبيه وقومه ووعده بأن يكون معه فعرض ذلك على أهله فأجابوه مبادرين إلى طاعته. فتحمل بأهله وماله وسرقت راحيل أصنام أبيها فلما جاوزوا وتحيزوا عن بلادهم لحقهم لابان وقومه فلما اجتمع لابان بيعقوب عاتبه في خروجه بغير علمه وهلا أهلمه فيخرجهم في فرح ومزاهر وطبول حتى يودع بناته وأولادهن. ولم أخذوا أصنامهم معهم ولم يكن عند يعقوب علم من أصنامه؟ فأنكر أن يكون أخذوا له أصناماً، فدخل بيوت بناته وإمائهن يفتش فلم يجد شيئاً وكانت راحيل قد جعلتهم في بردعة الحمل وهو تحتها فلم تقم واعتذرت بأنها طامث فلم يقدر عليهن فعند ذلك تواثقوا على رابية هناك (يقال لها: جلعاد) على أنه لا يهبن بناته ولا يتزوج عليهن ولا يجاوز هذه الرابية إلا بلاد آخر لا لابان ولا يعقوب وعملا طعاماً وأكل القوم معهم وتودع كل منهم من الآخر وتفارقوا راجعين إلى بلادهم.
اقترب يعقوب من أرض ساعير تلقته الملائكة يبسرونه بالقدوم وبعث يعقوب البرد إلى أخيه العيص يترفق له ويتواضع له فرجعت البرد وأخبرت يعقوب بأن العيص قد ركب إليك في أربعمائة راجل فخشى يعقوب من ذلك ودعا الله عزوجل وصلى له وتضرع إليه وتمسكن لديه وناشده عهده ووعده الذي وعده به وسأله أن يكف عنه شر أخيه العيص وأعد لأخيه هذية عظيمة وهي: مائتا شاة وعشرون تيساً ومائتا نعجة وعشرون كبشاً وثلاثون لقحة (ناقة حلوب) وأربعون بقرة وعشرة من الثيران وعشرون أتانا وعشرة من الحمر وأمر عبيده أن يسوقوا كلاً من هذه الأصناف وحده وليكن بين كل قطيع وقطيع مسافة فإذا لقيهم العيص فقال للأول: لمن أنت؟ ولمن هذه معك؟ فليقل لعدبك يعقوب أهداها لسيدي العيص وليقل الذي بعده كذلك وكذا الذي بعده.
تأخر يعقوب بزوجتيه وأمتيه الليلة الثانية تبدأ له ملك من الملائكة في صورة رجل من الناس فأتاه يعقوب ليصارعه ويغالبه فظهر عليه يعقوب فيما يرى إلا أن الملك أصاب فخذه فعرج يعقوب فلما أضاء الفجر قال له الملك ما اسمك؟ قال يعقوب. قال: لا ينبغي أن تدعى بعد اليوم إلا إسرائيل فقال له يعقوب: ومن أنت؟ وما اسمك؟ فذهب عنه فعلم أنه ملك من الملائكة وأصبح يعقوب وهو يعرج من رجله فلذلك لا يأكل بنو إسرائيل عرق النساء. ورفع يعقوب عينه فإذا أخوه العيص قد أقبل في أربعمائة راجل فتقدم أمام أهله فلما رأى أخاه العيص سجد له سبع مرات وكانت هذه تحيتهم في ذلك الزمان وكان مشروعاً لهم كما سجدت الملائكة لآدم تحية له كما سجد أخوة يوسف وأبواه له. فلما رآه العيص تقدم إليه واحتضنه وقبله وبكى ورفع العيص عينيه ونظر إلى النساء والصبيان فقال: من أين لك هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الذين وهب الله لعبدك. فدنت الإمتان وبنوهما فسجدوا له ودنت ليا وبنوها فسجدوا له، ودنت راحيل وابنها يوسف فخرا سجدا له. وعرض عليه أن يقبل هديته وألح عليه فقبلها ورجع العيص فتقدم أمامه ولحقه يعقوب بأهله وما معه من الأنعام والماشية والعبيد قاصدين جبال ساعير (اسم لجبال فلسطين وهو قرية من الناصرة بين طبرية وعكا). فلما مر بساحور ابتنى له بيتاً ولدوابه ظلالاً ثم مر على أورشليم قرية شخيم فنزل قبل القرية واشترى مزرعة شخيم بن حمور بمائة نعجة فضرب هناك فسطاطه (خيمته) وابتنى مذبحاً فسماه: إيل إله إسرائيل وأمر الله ببنائه ليستعلن له فيه وهو بيت المقدس اليوم الذي جدده بعد ذلك سليمان بن داود عليهما السلام وهو مكان الصخرة التي أعلمها بوضع الدهن عليها قبل ذلك وذكر أهل الكتاب هنا قصة دينا بنت يعقوب بنت ليا وما كان من أمرها مع شخيم بن جمور الذي قهرها على نفسها وأدخلها منزله ثم خطبها عن أبيها وإخوتها فقال إخوتها: إلا أن تختتنوا كلكم فنصاهركم وتصاهرونا فإنا لا نصاهر قوماً غلفا. فأجابوهم إلى ذلك واختتنوا كلهم فلما كان اليوم الثالث واشتد وجعهم من ألم الختان مال عليهم بنو يعقوب فقتلوهم عن آخرهم وقتلوا شيخماً وأباه جمور لقبيح ما صنعوا إليهم مضيافاً إلى كفرهم وما كانوا يعبدونه من أصنامهم فلهذا قتلهم بنو يعقوب وأخذوا أموالهم غنيمة.
ثم حملت راحيل فولدت غلاماً وهو بنيامين إلا أنها جهدت في طلقها به جهداً شديداً ومات عقيبه فدفنها يعقوب في أفراث (وهي بيت لحم) وصنع يعقوب على قبرها حجراً وهي الحجارة المعروفة بقبر راحيل إلى اليوم. وكان أولاد يعقوب الذكور إثنى عشر رجلاً فمن ليا روبيل وشمعون ولاوي ويهوذا وأياخر وزايلون، ومن راحيل يوسف وبنيامين ومن أمه راحيل: دان ونفتالي، ومن أمة ليا: حاد وأشير عليهم السلام. وجاء يعقوب إلى أبيه اسحاق فأقام عنده بقرية حبرون التي في أرض كنعان حيث كان يسكن إبراهيم ثم مرض اسحاق مات عن مائة وثمانين سنة ودفنه أباه العيص ويعقوب مع أبيه إبراهيم الخليل في المغارة التي اشتراها.