الفراغ الروحي (3): ما هي مظاهره؟؟...
بقلم : الأستاذ: عبد الله عبد المؤمن
لعل ما يستهوي القارئ وهو يحيط بجنبات هذا الموضوع ما يكتنهه من أسرار تسدل عليه مسحة الخفاء والباطنية، وتجعله أقل تناولاً في غالبية الأحوال على مستوى الدراسات العلمية والنفسية وهذا ما ابتغيناه بفتح هذا الباب وفتق ذلكم الجلباب وهو ما أسهم ولله الحمد في تتبع جمع من القراء الأعزاء لمراحل دراسته والتي أردناها دراسة علمية شرعية اجتماعية واقعية، بل أكسب ذلك رضاهم مما حدا بي إلى استئناف إتمام سلسلته بعد ما أحطنا بالأسباب المجملة في:
ـ طغيان المادية والذاتية والاستهلاكية.
ـ قلة الوعي الديني.
ـ الغفلة عن الذكر والفكر.
بل لقد حاول الكثير تنزيل أحواله على ما بدا له من وجاهة هذه الأسباب من خلال ما أفضى إليه حاله من مظاهر القلق والتوتر وغياب فرص العمر كما يزعم البعض، أو سوء الحظ والطالع كما يتوهم الكثير ـ وهو أمر يفرضه الفراغ الديني ولا ينبغي اعتقاده ـ، وقد فرغنا من الأسباب لنلج إلى مظاهر تجلياته مستعينين في ذلك بالتفكر في الذات، ورؤية فاحصة للواقع ودراسة أحوال الناس ونفسياتهم من منطلق الدعوة والمعايشة.
وأحب قبل استظهار مظاهر الفراغ الروحي في المجتمع أن أثبت العرش على قرار مكين، ليلوح لكل ذي عقل سليم أن هذا الداء ظاهر للعيان ولا يختلف فيه اثنان، وإن كان تشخيصه من الصعوبة بمكان، ويكاد ينبلج فجر أسراره بمعرفة أن روح المومن تتطلب هي الأخرى حياة وعمارة وانتعاشة بين الفينة والأخرى، كما جسده سواء بسواء.
قال ابن عجيبة رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "فلينظر الإنسان إلى طعامه، إنا صببنا الماء صبا..الآية"، أي الحسي والمعنوي، وهو قوت القلوب والأرواح. قال القشيري: صببنا ماء الرحمة على القلوب القاسية فلانت للتوبة، وماء التعريف على القلوب الصافية فنبتت فيها أزهار التوحيد وأنوار التجريد. اهـ [1]
أي نعم، لكم تحتاج أرواحنا إلى غذاء متواصل أبدي، يتعرف الإنسان من خلاله على أدوائها وعللها وطرق علاج فراغها، وهذا قد يتأتى بالتفكر الوارد في قوله سبحانه "فلينظر.." وقد دعينا إليه في نصوص القرآن جهاراً نهاراً بل لقد قُدِّم حتى على العبادة ففي الأثر: "تفكر ساعة خير من قيام ليلة".
فكما وجدت الذات الإنسانية على أطوار ومراحل يعرفها الخاص والعام وتتلخص في سبعة: النطفة والعلقة والمضغة والجنين والطفولة والكهولة والشيخوخة، فكذا الأمر بالنسبة للروح في مملكة الإنسان فأطوارها ومراحل تهذيبها وجماليتها لا تتعدى نفس العدد: أولها التوبة، ثم الورع، ثم الزهد، ثم التوكل، ثم الرضا والتسليم، ثم المراقبة، والمشاهدة. مصداقاً لقوله سبحانه: " ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا"
فإذا كان تكوين الإنسان من نطفة فحياة روحه بالتوبة وعمارتها بالتزكية والرجوع إلى خالقها وبارئها بالتخلية والتحلية، فإن عُدم الفصل الأول من مراحل تهذيبها فذا الأمر يستدعي فراغاً واضمحلالاً، من مظاهره ما يلي:
1. العدمية ونكران الذات والهوية
وهذا مظهر من مظاهر الفراغ الروحي، ويفسر في الواقع برؤى مختلفة واصطلاحات متباينة ولكن، لا مشاحة في الاصطلاح، إذ يتفاوت ذلك حسب النظر إلى المجتمعات وأحوال الناس، وما يتخبطون فيه من هموم وكدر بسوء الوضعية أو قلة الرزق أو كثرة البلاء والبلواء وغيرها.
والمقصود بالعدمية هنا تناسي الإنسان لجوهر وجوده وسر مقصوده وضعفه وهوانه أمام عوادي الزمان، وسيطرة الواقع بمكتشفاته ومظاهر حضارته ومخترعاته على صيرورة حياته، ومن ثم غفلته عن مسألة الروح وسر الوجود فيضل ـ إنسان العصر على الخصوص ـ في متاهات العدمية ويفقد حينذاك المناعة الذاتية والمكتسبة، وتصير الحقيقة الإيمانية عنده ذات بعد تقليدي تنعكس في جملة مواسم على أشكال لباسه ومظاهر فرحه، وتصير العبادة أشبه ما تكون بطقوس فلكلورية تغيب عنها معاني الطهارة والقداسة.
وهذا المظهر هو السبب الوجيه في نظري القاصر وراء الزجّ بإنسان العصر في متاهات نكران أصول الدين وثوابته وضوابطه دونما تفريق بين الأصول والفروع والكليات والجزئيات والوسائل والمقاصد، إذ يسرح العقل وحده فيصير نعم الحكم عنده ويصير كلا الزوجين السابقين سيان، فيحكمه في نتاج فكره الضلال والهذيان، وتصير ذاته حمّالة الغث والسمين يخرقها من شاء متى شاء وكيفما شاء، وكل فكر أتت به رياح الشرق أو الغرب إلا واستوطن كيانه وصار حقيقة في حنايا صدره. ولعله قد أحاط الكل بخطر التنصير المحدق بشبابنا وفتياتنا حتى أضحى البعض يدخلون في دين المبشرين أفواجاً ويعتقدون أن المسيحية هي المخلّص من أوضاعهم الرديئة وأزماتهم المتلاحقة. هذا بالنسبة لمن أنهكته الحاجة وفي مقابله من أهل المادة من وقع التماهي والتناغم بينه وبين الحضارة المادية حتى لا يستطيع التخلص من براثنها إذ صعب على من علقت المادة بكنه مقصوده أن تنسلخ عنه وأن يقوى على الخروج من بطونها. وفي هذا الصدد يقول أحد الباحثين:
" من الواضح أن الحضارة المادية الحديثة، قد قدمت كل رهاناتها للإنتاج الصناعي والارتقاء المادي، وحين تتناقص إمكانات النمو المادي ـ وهذا شيء قادم لا محالة ـ فإن الإنسان سوف يلجأ إلى الروح مرة أخرى، ليستمد منها طاقة الإبداع والتكيّف مع الظروف الجديدة، لكنه سوف يجد أنه قد هدم كل المنابع الثّرة التي يمكن أن يرتوي منها وسيجد نفسه آنذاك مفلسا من المادة والروح معا." [2]
ولذا يسم كبار مفكري العالم القرن الحالي بقرن الثورات والصدمات، وقرن عصفت فيه الأزمة بكل دعائم الثقة وأركان اليقين، وعصر انتشار الفاحشة والانحلال الخلقي وإدمان المخدرات والشذوذ الفكري والجنسي والفساد المالي والغش والتزوير، كل ذلك اقترن بالتقدم العلمي وتترَّس به بل منهم من يعتبره من حسناته فيدافع عنه باسم التقدمية والحضارة والعصرنة.. ولكنه مكمن الفساد والنكاد ولم يؤت ذلك إلا منه ومن خلاله بسبب إعراض البشرية عن هدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فلا يغتر المؤمن المعافى جسداً وروحاً بمظاهر العدمية هاته ونكران الذات والهوية والتي نراها تحصد أرواح الملايين عبثاً وهم سادة العالم مادياً ومسيروه حضارياً فنسمع أن مثلاً امرأة الغرب قد تخنق أنفاسها والرجل كذلك لا لشيء إلا لأن كلبهما أصيب بمرض عضال فلم يطيقا رؤيته يتألم. يا سبحان الله، يهدر الإنسان أعز ما يملك في سبيل أتفه التوافه وقد عدّ وجوده عدماً وحياته ألماً، وما هكذا أراد تشريعنا الحنيف عندما ارتقى بالإنسان جسداً وروحاً إلى أسمى مقامات الكمال، وللأسف الشديد فقد اكتسح داء الانتحار والقتل بغير حق واقعنا ومجتمعاتنا كذلك لأسباب زهيدة نسأل الله السلامة والعافية.
وقد يستغرب البعض إذا أيقن أن دعاة الحداثة في الغرب يُجرون حوارات ذاتية ومراجعات داخلية يحاولون من خلالها إعادة النفس إلى العلاقة بين المادة والروح والعلم والإيمان وإلا سيكون المآل مزرياً. وهذا الأمر حقيقة يتخبط فيه المسلم المعاصر من خلال مظاهر حب الخلود والتعلق بالمادة والاستهلاك الفاحش وضمور الإنتاج وفتور الهمم وأزمة القيم وغياب الوازع، وهذا ما يصبنا في مظهر موال من مظاهر الفراغ الروحي وهو:
2. ضيق الأفق ومحدودية الهدف
وبه صار انطباع إنسان العصر تجاه طرائق العيش والتعايش انطباعاً سلبياً، تخترمه أزمات متتالية وعقد نفسية تجعل نَفَس العطاء والإنتاج عنده دونياً، وهذا ما يطرح جملة إشكالات واقعية لا يقف الكثير عندها وقفة تدبر وتأمل على مستوى الأسباب والنتائج وربطها بالشرع والواقع لذا لا تكاد الدراسات والأوراش المعالجة تقوم من مقامها إلا وتزيد الظاهرة استفحالاً وغلياناً.
ويتعلق الأمر على سبيل المثال بظاهرة الهجرة السرية والتي عجزت التدابير عن إيقافها بل اضطرب حتى علماء الشرع بشأنها فأفتى بعضهم بتحقيق الشهادة والنهاية الهنية لمن أدركه الغرق ساعتها. وهذا ضمور في فقه مقاصد الشرع وجمود في فهم النقل واستعمال العقل، فلم لا تكون الهجرة والاستعداد لها والمتاجرة والمرابحة فيها وليدة ضيق الأفق الإيماني ومحدودية الهدف والذي يعدّ مظهراً من مظاهر فراغ روح الإنسان من أطوار جمالها كحقيقة التوكل والرضا والتسليم وغيرها.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أربع من سعادة المرء أن تكون زوجته صالحة وأولاده أبراراً وخلطاؤه صالحين ورزقه في بلده"
وحتى لا نجانب هذا المظهر لنلمس في ظاهرة الإدمان على المخدرات كذلك والتعاطي للفواحش ما ظهر منها وما بطن، ضيق الأفق كذلك عن مواجهة صوارف الزمان بالعمل والكدّ، وكيف يتلاقى نفس المنحرفين وتتكاثف جهودهم على صعيد واحد من أجل هدف واحد فالشواذ مجندون لتوسيع استهلاك الكوكايين [3]، ومعهم المومسات وشباب كالأقمار لم يجدوا بُدَّاً من الارتماء في أحضان الرذيلة لتأزم أخلاقهم واندثار خلاقهم، يظنون في ذلك الخلاص ولم يلتفتوا أبداً إلى إصلاح دينهم والتوجه إلى ربهم.
وغالب من كان حالهم كذلك دافعه بالاستقراء الانتقام لأنفسهم بهتك حياتهم والتعاطي لما يذهب عقلهم وتفكيرهم، فربما ضيق أفقهم يُسوّل لهم أنه قد أهضمت حقوقهم وضاعت مطالبهم فلا خلاص إلا بذلك، وهذا عين الخطأ لأن الله عز وجل ما ترك خلقه أبداً عبثاً وكلٌّ قد تكفل برزقه حتى يلقاه، فيكون هذا المسلك بخروج المرأة العفيفة إلى الشارع أو تعاطي الشاب الوسيم المقتدر للمخدرات أو شذوذ السلوك الجنسي أو غير ذلك من مظاهر الفراغ الروحي، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن لجهنم بابا لا يدخله إلا من شفى غيظه بمعصية الله"
فهذه لعمري بعض مظاهر الفراغ الروحي في مجتمعاتنا وتبرم الناس عن ابتغاء الهدى في شرع ربنا أولها العدمية ونكران الهوية، ثم ضيق الأفق ومحدودية الهدف، وسيأتي إن شاء الله تباعاً الحديث عن مظاهر أخرى ومنها:
ـ العنف.
ـ تأزم الأخلاق.
ـ انتشار الجرائم.
ـ اليأس من صلاح الأحوال.
ـ الأوهام.
ـ التوتر.
ـ القلق والاكتئاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد لابن عجيبة: 6/269
(2) عصرنا والعيش في زمانه الصعب، د عبد الكريم بكار:206
(3) جريدة المساء عدد 366، 22/11/07